ابن أبي محلي: الفقيه الثائر ضد الحكم السعدي

 

ابن أبي محلي ثورة ابن أبي محلي الحكم السعدي المهدوية التصوف في المغرب تاريخ المغرب أحمد ابن أبي محلي الشخصيات التاريخية المغربية الثورة ضد الحكم السعدي

أحمد ابن أبي محلي السجلماسي هو إحدى الشخصيات المثيرة للجدل التي تركت بصمة قوية في تاريخ المغرب خلال فترة الحكم السعدي، خاصة بعد وفاة اخر أقوى سلاطين الدولة السعدية أحمد المنصور الذهبي (1549م-1603م). تمثل شخصية ابن أبي محلي تبايناً كبيراً في الآراء، حيث لم يكن فقط سياسياً طامعاً في السلطة، بل كان أيضاً فقيهاً ومثقفاً قاد ثورة في تافيلالت والساورة ضد الحكم السعدي. ظهرت شخصيته على مسرح الأحداث في مغرب نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، فترة تميزت بفوضى كبيرة وأزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، أبرزها الجفاف والقحط وغلاء الأسعار والجوع والنزوح السكاني، خاصة في منطقة سوس ومنطقة الواحات التي ينتمي إليها ابن أبي محلي.



نشأة ابن أبي محلي وتكوينه العلمي

الميلاد والنشأة

وُلد أحمد بن عبد الله بن محمد بن القاضي بن أبي محلي السجلماسي عام 967هـ/1559م في عائلة علمية مشهورة برياسة العلم وخطة القضاء في سجلماسة. توفيت والدته وهو صغير، فكفلته جدته. بدأت مراحل تعليمه الأولى في الكتاب  تحت إشراف والده الذي كان يتسم بالشدة في تعليمه، حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم المبادئ العلمية الأولية.



الرحلة العلمية إلى فاس

في عام 1572م/980هـ، رحل أحمد بن عبد الله إلى مدينة فاس لطلب العلم، فالتحق بجامع القرويين ودرس الأدب والنحو والقراءة والحديث والتصوف على يد عدد من العلماء البارزين مثل أبو القاسم بن القاضي الفاسي، وأبو العباس أحمد القدومي، وأبو محمد عبد الله المزياني، والشريف التلمساني، والشيخ أبي العباس المنجور، ومحمد بن أبي عبد الله المديوني التلمساني.




رحلة التصوف والانقطاع

بداية التصوف والانقطاع

أبدى ابن أبي محلي اهتماماً كبيراً بالتصوف خلال فترة دراسته بالقرويين، وخاصة بعد لقاءه بالشيخ محمد بن أبي عبد الله المديوني. دخل في فترة انعزال تصوفي بين عامي 1579م و1594م/987هـ-1001هـ نتيجة وفاة أخيه الذي كان يرافقه في فاس، مما جعله يمر بحالة نفسية صعبة. استمر ابن أبي محلي في زاوية مبارك الزعري نحو خمس عشرة سنة، حيث ألف خلالها عدداً من الكتب في التصوف مثل "الوضاح" و"القسطاس" و"السلسبيل"، إضافة إلى مقاطع عدة في كتابه "الإصليت الخريت بقطع بلعوم العفريت النفريت".



العودة من التصوف

بعد انقطاع دام لسنوات، عاد ابن أبي محلي من زاوية مبارك الزعري وقرر التوقف عن تصوف الأحوال، مدعياً أنه شفي من هذه الأحوال بعد حجه الأول وشربه لماء زمزم. ندم على ما فعل وصار يهاجم هذا النوع من التصوف.




رحلة الثورة ضد المخزن السعدي

بداية الثورة

بعد عودته من الحج، شهدت حياة ابن أبي محلي تحولاً كبيراً، فعاد إلى سجلماسة ووادي الساورة لبدء الإعداد للثورة ضد الحكم السعدي. بدأت هذه المرحلة ابتداء من سنة 1594م/1002هـ، حيث حاول توطيد نفوذه في المنطقة والحصول على اعتراف بعض العلماء له بالقُطبانية. راسل عدداً من شيوخ القبائل والعلماء في فاس ومراكش ودرعة وسوس وسجلماسة وفكيك بهدف جمع الدعم اللازم لثورته.



الصراعات المحلية

دخل ابن أبي محلي في صراع مرير مع بعض الشخصيات المحلية مثل عبد القادر بوسماحة، الذي اعتبره من المبتدعة واتهمه بأكل أموال الزكاة والانتماء إلى طائفة العكاكزة. نتيجة لهذا الصراع، اضطر ابن أبي محلي للانتقال إلى قرى بني عباس في توات.



ادعاء المهدوية وتوسيع النفوذ

ادعاء المهدوية

عند وصول خبر تسليم محمد المامون السعدي لمدينة العرائش للإسبان سنة 1610م/1019هـ، أعلن ابن أبي محلي الثورة ضد المخزن السعدي وادعى المهدوية، مدعياً أن الأوصاف التي جاءت في المهدي المنتظر تنطبق عليه. ذكر العلامة الحسن اليوسي أن ابن أبي محلي ادعى المهدوية بعد تأليف كتب في التصوف، وأنه كان صاحب ابن مبارك التستاوتي في الطريق.



الانتصارات العسكرية

بعد عودة ابن أبي محلي من وادي الساورة، شرع في توسيع نفوذه العسكري والسياسي مستفيدًا من الوضع الفوضوي الذي ساد المغرب عقب وفاة السلطان أحمد المنصور الذهبي. أدرك ابن أبي محلي أن الفرصة مواتية لتحقيق أهدافه، فبدأ بتطبيق تكتيكات حربية غير تقليدية، حيث ركز على استهداف الحاميات السعدية المتفرقة بهدف زعزعة استقرارها وتقويض قدرتها على التنسيق كقوة موحدة. كانت أول مواجهة له مع الجيوش السعدية في سجلماسة خلال ربيع عام 1611م، حيث تمكن من تحقيق انتصار مدوٍ، لم يكن فقط نصراً عسكرياً بل أيضاً رمزياً، حيث عزز من شرعيته وجذب حوله أتباعاً جدد من مختلف المناطق مثل الراشدية وتلمسان. مع توسع نفوذه في الجنوب المغربي، لم يكتف ابن أبي محلي بالانتصارات العسكرية، بل سعى إلى تأكيد سلطته السياسية من خلال إصدار نقود باسمه في منطقة درعة، خطوة جريئة عكست ثقته المتزايدة في قدرته على السيطرة على المنطقة وإعادة بناء نظام سياسي جديد.

ومع تصاعد قوته، قرر ابن أبي محلي التوجه نحو مراكش، العاصمة السعدية التي كانت تعاني من ضعف دفاعاتها نتيجة للصراعات الداخلية المستمرة بين أفراد الأسرة الحاكمة. بعد رحلة شاقة عبر الأطلس الكبير، تمكنت قواته من دخول مراكش في عام 1611م، حيث فر السلطان زيدان من المدينة دون أن يتمكن من الدفاع عنها. بهذا الانتصار، أصبح ابن أبي محلي الحاكم الفعلي لمراكش، رغم أنه لم يتوج نفسه كسلطان بشكل رسمي. خلال فترة حكمه للمدينة، عمل على إعادة تنظيم الإدارة المحلية واستقطاب العلماء والزعامات لضمان استقرار حكمه. لكنه واجه تحديات كبيرة، أبرزها التدهور الاقتصادي والصراعات القبلية التي كانت تتفاقم في المناطق المحيطة.

في ظل هذه التحديات، لجأ السلطان زيدان إلى طلب المساعدة من الفقيه أبي زكرياء الحاحي، الذي كان يتمتع بنفوذ كبير في تارودانت. نجح الحاحي في تنظيم حملة عسكرية مضادة ضد ابن أبي محلي، وفي 30 نوفمبر 1613م، التقى الجيشان في معركة جليز بالقرب من مراكش. في بداية المعركة، أظهرت قوات ابن أبي محلي مقاومة قوية، لكن التقديرات الخاطئة والخيانات الداخلية بين صفوفه سرعان ما أدت إلى تراجعها وانهيار دفاعاتها. انتهت المعركة بهزيمة ابن أبي محلي ومقتله، مما أدى إلى انهيار ثورته بشكل فعلي. رغم وفاته، لم تختفِ أفكاره بين أتباعه، حيث استمر العديد منهم في الإيمان بأنه المهدي المنتظر الذي سيعود ليكمل مهمته. وحتى بعد مرور قرنين على وفاته، ظل أتباعه ينتظرون عودته، مما يعكس تأثيره العميق في نفوسهم وقدرته على ترسيخ أفكاره بينهم.


مؤلفات ابن أبي محلي

ألف ابن أبي محلي عدداً من المؤلفات خلال فترة زمنية قصيرة بين عامي 1011هـ و1019هـ، اختار لها عناوين ذات طابع عسكري عنيف تعكس فكره الثوري والعقائدي. من بين هذه المؤلفات: "الوضاح"، "القسطاس"، "السلسبيل"، و"الإصليت الخريت بقطع بلعوم العفريت النفريت".



ابن أبي محلي هو شخصية تاريخية مثيرة للجدل، أثرت بشكل كبير على تاريخ المغرب خلال فترة الحكم السعدي. جمع بين العلم والتصوف والسياسة، وقاد ثورة ضد الحكم السعدي بدعوى المهدوية. ترك أثراً عميقاً في النفوس، حيث استمر أتباعه في الإيمان بأفكاره حتى بعد وفاته.


المصادر و المرجع

  • القدوري عبد المجيد، ابن أبي محلي الفقيه الثائر ورحلته الإصليت الخريت، منشورات عكاظ، 1991، الرباط
  • حجي محمد، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، ج1، منشورات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر– سلسلة التاريخ (2)، 1976
  • الناصري أحمد بن خالد، الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج6، تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري، درا الكتاب، الدار البيضاء، 1997

تعليقات