معلومات عن كتاب تاريخ التأريخ
عنوان الكتاب : تاريخ التأريخ، اتجاهات - مدارس - مناهج.
صاحب الكتاب : وجيه كوثراني.
دار النشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - بيروت.
الطبعة : الثانية 2013
مقتطف من كتاب تاريخ التأريخ
إن تاريخ المعرفة الإنسانية هو تاريخ الجهد الذي يبذله البشر من أجل إدراك وعي خبراتهم الناتجة من علاقتهم بالطبيعة وببعضهم البعض، من أجل تطوير حياتهم تطويرًا، يسمح بتنظيم اجتماعهم واقتصادهم وصحتهم، وحل المسائل والألغاز التي تحيط بهم وتواجههم في كل حين. ومجموعة هذه المعارف والخبرات هي التي تؤلف مضمون الحضارات الإنسانية في مساراتها الخاصة والعامة، المؤطرة في منطقة معينة من مناطق العالم، أو المتفاعلة مع الحضارات الأخرى، الحاملة خصوصيات معينة يدّعيها أصحابها، أو المشتركة مع غيرها من الحضارات السابقة عليها أو المعاصرة لها، بسمات عامة ومشتركة. بهذا المعنى تصبح المعرفة نتاجا تطوريًا لمعطيات الحضارات الإنسانية جميعها، إذ لا يمكن لحضارة من الحضارات أن تحتكر لوحدها انجازات المعرفة، وكما درجت على ذلك اتجاهات أيديولوجية أوروبية كانت قد شدّدت في وقت من الأوقات (في مرحلة النهوض الأوروبي والسيطرة الاستعمارية على اعتبار الحضارة اليونانية (((معجزة» وأما «وحيدة» للمعارف الإنسانية التي انطلقت بها أوروبا الحديثة، وأن الحضارة الغربية هي ، رسالة تمدين خاصة بـ «الرجل الأبيض».
صحيح أن التشكل التاريخي للمعارف الإنسانية سار في طريق طويلة ومعقدة ومتفاوتة الأهمية من حيث المحطات الجغرافية والإثنية والزمنية، من حيث تفاوتت المساهمات في إغناء المعرفة وإثرائها بين منطقة وأخرى، وشعب وآخر، وبين مرحلة زمنية وأخرى. إلّا أنه يبقى التواصل ما بين المعارف الإنسانية على مستوى التأثيرات المتبادلة ما بين الحضارات، أمرًا ثابتا على مر الأزمنة ويمكن التأكيد أيضًا أن المعرفة الإنسانية واحدة وإن تشعبت فروعها واختلفت منطلقاتها وأماكنها ومصادر أقوامها وشعوبها. يقول جورج سارتون في تأكيد وحدة المعرفة الإنسانية، سواء أكانت مادتها اختراعا أم اقتباسا أم تقليدا، ما يلي: ولو أننا سلّمنا بأن الجنس البشري ظهر في مكان واحد فإن آلافا . السنين انقضت بين ظهوره وفجر الحضارة، وإن فرصا لا حصر لها أدت ببني الإنسان أن ينتشروا في جهاتٍ كثيرة بتطويح القدر والأحوال. وبالرغم من التغيرات الناشئة عن اختلاف البيئات الجوية والجغرافية فإن المعضلات التي واجه بنو الإنسان حلها هي في أساسها واحدة. فهل نستغرب مع هذا أن يصلوا في جهات مختلفة إلى حلول متطابقة أو متشابهة؟ أليس الإنسان في الواقع جنسا واحدا؟ إنهم ربما وصل بعضهم أحيانًا إلى الحل دون معونة من بعض آخرين، أو ربما وصل الحل، أحيانًا أخرى إلى آذانهم أو عيونهم فقبلوه أو سرقوه أو أعادوا اختراعه. ونستطيع أن نفسر الاقتباس الحضاري بتفسيرات متنوعة، وربما اختلف مقداره من شيء تام إلى ما يقرب من العدم ومن تقليد أعمى إلى الاكتفاء بأقل إشارة» .
ومهما يكن من أمر طرق انتقال أشكال المعرفة وأساليب اقتباسها وتطوير موضوعاتها بين الشعوب من جهة، وعبر الأجيال البشرية من جهة أخرى، فإن ما يعيّن وحدتها المتأصلة واستمرارية نموها المطرد هو ما يمكن أن نسميه فطرة التعلّم عند الإنسان، أو ذاك الاستعداد الذهني الإنساني للانتقال بالإدراك من مستوى المعرفة الحسية البسيطة إلى مستوى التحليل والتركيب والتجريد، وعبر أدوات وطرائق عقلية درج الباحثون في فلسفة المعرفة وطرائقها على تسميتها أسلوب التفكير العلمي. وهو الأسلوب الذي يتضمن قواعد محددة تجري على مستوى العمليات العقلية وعلى مستوى الخطوات الإجرائية كالاستدلال والاستقراء في المنهجين التجريبي والجدلي.
والمعرفة المقصودة في هذا المجال هي المعرفة المحققة عبر تلك القواعد والخطوات الحسية والذهنية وهذه القواعد مارسها الإنسان في مواجهة مشكلاته الحياتية والوجودية وإيجاد الحلول لها دون أن بالضرورة صياغة منهجية وفلسفية محدّدة لها:
يستتبع ذلك فالمنطق الاستدلالي البرهاني كان ممارسًا في العمليات العقلية قبل أن يضع أرسطو له القواعد والضوابط والقوانين التي تُنسب إليه.
والمنهج التجريبي الذي يُنسب في ممارسته ووضع أسسه إلى فرنسيس بيكون وجون ستيورات ،میل ارتكزت عليه وبصورة ضمنية شتى إنجازات المعرفة التي قامت على الملاحظة والمشاهدة والاستنتاج في شتى العصور. والأمر كذلك بالنسبة إلى المنهج الجدلي، فقوانينه التي تنسب إلى هيغل على مستوى تطور الفكر ، وإلى ماركس على مستوى المادية التاريخية»، أو التطور الاقتصادي للمجتمعات البشرية، كانت قد مُورِسَتْ في قطاعات متعددة من تاريخ المعرفة الإنسانية؛ فـ «الفلاسفة الطبيعيون في الحضارة اليونانية، كانوا من أوائل من مارس المنهج الجدلي المادي.
وإذا ما ميزنا بين المادية التاريخية كحقل تطبيقي للفلسفة المادية في التاريخ وبين المنهج الجدلي كأسلوب من أساليب التفكير العلمي الذي يعتمد البرهان العقلي الجدلي، لأمكن القول إن هذا المنهج الأخير كان قد تخلل عددًا من طرائق العلوم الفقهية والكلامية في مجال الحضارة العربية الإسلامية. فالإثبات ومقابل الإثبات وتركيب الإثباتين يوازي في المنهج الجدلي الحديث: الأطروحة والطباق والنتيجة أو التركيب.