إذا كان ظهور الأيوبيين نتاجا مباشرا للحركة الصليبية في شقها السياسي في منطقة الشرق الأدنى خلال القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، فمن ذيولها نبتت دولة المماليك في نفس المجال الجغرافي في منتصف القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، بعد أن نجحت في انتزاع الدور التاريخي من الأيوبيين الذين جلبوهم عبيداً في طفولتهم وربوهم ليكونوا أداتهم العسكرية في صراعاتهم ومنازعاتهم الكثيرة.
فإذا تتبعنا جوانب النشاط السياسي والعسكري للدولة الجديدة المملوكية، نقف على كونها تمثل استمرارا لسابقتها الأيوبية مع اختلافات استثنائية ترتبط بطبيعة الظروف السياسية الخارجية التي أحاطت بكل منهما من جهة وشخصية الحكام من جهة ثانية. وعلى العموم نشأ سلاطين وحكام الدولة المملوكية في رحم بني أيوب، ولعل هذا العامل الأخير هو المسؤول عن هذا التشابه الكبير والواسع بين الدولتين.
إذ ظل المماليك متمسكين بإرث أساتذتهم ومعلميهم الأيوبيين، وما خلفوه من نظم قانونية وسياسية خارجية. ولهذا فإن دراسة الدولة المملوكية، أو العصر المملوكي يطرح تحديا في التمييز بين ما هو خصائص خالصة للدولة المملوكية، أي الصورة الحقيقية للدولة المملوكية وعصرها، والتي تمتد جذورها في عمق العهد السابق لها، أي العهد الأيوبي. ولهذا فإن وقوفنا هنا على دراسة العصر المملوكي لن يخلو من إشارات متكررة للتجربة الأيوبية ضمنيا حتى نهاية دولة المماليك سنة 1517 م/ 923 ه.
أصول المماليك ونشأتهم:
من هم المماليك؟
المماليك، جمع مملوك، وهم من الرقيق البيض الذين تم استقدامهم من الحروب التي كان يقودها العباسيون والأيوبيون مع الشعوب الأخرى الغير عربية "الأسيوية أو الأوربية أو من جزر البلقان"، ويأتون بهم إلى البلاد الإسلامية إما عن طريق الأسر أو الشراء. وكان الخليفة المعتصم العباسي 218 - 227 ه/ 833 - 842 م أول من شكل فرقاً عسكرية ضخمة منهم وأحلهم مكان العرب الذين أسقط أسماؤهم من ديوان الجند ، يشترونهم بالأموال، ويهتمون بتدريبهم وتربيتهم على الولاء والطاعة. فكانوا يجلبونهم صغار السن ويتم تربيتهم وفق قواعد صارمة في ثكنات عسكرية معزولة عن العالم الخارجي، حتى يتم ضمان ولائهم التام للحاكم.
نظام التدريب والتربية والتعليم للمماليك
إن أول المراحل في حياة المملوك هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، ثم بعد ذلك يدفع إلى من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي، وآداب الشريعة الإسلامية.. ويهتم جدا بتدريبه على الصلاة، وكذلك على الأذكار النبوية ويراقب المملوك مراقبة شديدة من مؤدبيه ومعلميه، فإذا ارتكب خطأ يمس الآداب الإسلامية نبه إلى ذلك ثم عوقب، وبذلك يمتزج تعليم الشرع بفنون الفروسية وحسن السلوك والآداب. وفي كل هذه المراحل كان السيد الذي افتداهم يتابع خطواتهم وتربيتهم وتدريبهم بدقة. ولم تكن الرابطة التي تربط بين المالك والمملوك هي رابطة السيد والعبد أبداً، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأبناء عائلته، وهذه كلها روابط تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو التعسف، حتى أنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب )الأستاذ( وليس لقب السيد) .
وكان السلطان الصالح الأيوبي، يحرص على مجالستهم وزيادة أواصر العلاقة بينه وبينهم، يطمئن بنفسه عليهم وعلى شرابهم وراحتهم، ومن هنا جاء حبهم وولائهم العظيم له. وكان المملوك إذا أظهر نبوغا عسكريا فإنه يرتقي في المناصب رتبة بعد رتبة، وقد يصبح قائدا لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أقطعوه أراضي من الدولة، وقد يصل إلى درجة أمير. وهم في كل هذا ينتسبون عادة إلى سيدهم، فأصحاب الملك الصالح نجم الدين أيوب يعرفون ب "الصالحية"، كما سمي مماليك أسد الدين شيركوه بالمماليك الأسدية، وفي عهد الملك العادل سمي المماليك بالعادلية نسبة إلى العادل، ولما توفي خلفه أبناؤه الأشرف: موسى العادل، والكامل، وغيرهم، ونسب عدد من المماليك لكل واحد منهم، فعرف المماليك الأشرفية، والمماليك الكاملية.
وهكذا تنامى الوجود المملوكي في الإمارات والدول الإسلامية في الشرق الأدنى وخاصة في مصر طيلة نهاية القرن السادس الهجري وبداية القرن السابع الهجري ق 12 م و 13 م. ولعل ما ساقته الكتابات التاريخية حول تفاقم هذه الظاهرة، هو ما كان وراء تولية وعزل السلاطين والأمراء، ويصف بن طباطبا وضع دولة الخلافة العباسية عهد تسلطهم منذ مقتل المتوكل سنة 861 ه بقوله:
"واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في أيديهم كالأسير، إن شاؤوا أبقوه، وإن شاؤوا خلعوه، وإن شاؤوا قتلوه" .
ويبدو أن المميالك هم من دبروا مؤامرة عزل السلطان الملك العادل الثاني، ابن السلطان الملك الكامل، وتنصيب السلطان الصالح نجم الدين أيوب محله سنة 1239 م/637ه. الأمر الذي جعل هذا الأخير يوليهم عناية خاصة واستكثر منهم في صفوف جيوشه، وذلك خوفا من اجتماع الملوك الأيوبيين عليه وخاصة عمه إسماعيل، وأعطاهم حرية زيادة، حتى ضج منهم الناس فاضطر أن يبعدهم عن السكان. وكان معظم هؤلاء المماليك من الأتراك المجلوبين من بلاد القفجاق شمال البحر الأسود ومن بلاد القوقاز، قرب بحر قزوين، فبنى لهم قلعة خاصة بجزيرة الروضة، واتخذ من هذه القلعة مقراً لحكمه. وقد عرف هؤلاء المماليك بالبحرية نسبة إلى جزيرة الروضة في دلتا النيل. وهناك رأي آخر ذهب مفسروه بعيدا حين نسبوا هذه التسمية إلى الطريق البحري الذي سلكها المماليك من أسواق النخاسة في بلادهم بالقوقاز وآسيا الصغرى وشواطئ البحر الأسود، إلى مصر حتى الإسكندرية ودمياط.