توسع الفينيقيون في البحر الأبيض المتوسط و المحيط الأطلسي باعتبارهم قوة بحرية . لكن تاريخ التوسع شابته الأسطورة بحكم قلة المصادر و تمازج الأسطورة مع الكتابة التاريخية. و هنا سنتطرق للهذه الكتابات.
- التوسع الأسطوري للفينيقيين:
وظف كتاب فينيقيا الأساطير والخرافات لعدة أغراض: سياسية واقتصادية وعسكرية ، و هي عديدة نذكر كمثال منها أسطورتان:
الأسطورة الأولى : تشير لاختطاف الأميرة "أوربة " (أوربا) ابنة ملك صور "أجينور" من قبل الإله الوثني "زوس/ جوبيتر" بعد تحول هذا الأخير إلى ثور.حمل الأميرة "أوربة "فوق ظهره عابرا البحار إلى مملكته ،غير مكترث لصرخات الاستغاثة.أمر الملك ابنه "كادموس" بالبحث عن أخته ،بل حرم عليه العودة قبل أن إيجادها .اصطحب الأمير معه والدته " تيليفلسا" وأخويه "تاسوس" و"سيليكس" ، وبقى أخوهم" فونيكس" بالمملكة ،لأنه يمثل رمز بلاد كنعان. ماتت الأم من الحزن والكمد على فراق ابنتها ، و لم يجرؤ الأبناء الثلاثة على العودة لبلادهم بسبب قسمهم لأبيهم . أصبح "كادموس" وأخواه من أكبر مؤسسي المدن و المعابد على شواطئ البحر المتوسط،وترجع الأساطير ل"كادموس" نشر الأبجدية الفينيقية عبر سواحل البحر الأبيض المتوسط.
الأسطورة الثانية :ترتبط بالبطل "هرقل" ،وهو الاسم الإغريقي للإله الفينيقي "ملكارت " الذي توجه للغرب للبحث عن حديقة "الهسبيريدات" .فهو الذي أقام العمودان(أبيلا وكالبي) اللذان عرفا باسم "أعمدة هرقل"( سبتة و مضيق جبل طارق).
هرقل هو كذلك الذي فصل بين ضفتي المغرب واسبانيا ،وقضى على كل الشرور والعقبات بالبحر الداخلي (الأبيض المتوسط)، وفتح أيضا الطرق البحرية نحو البحر الخارجي (المحيط الأطلسي) .
نستشف من هاتين الأسطورتين رغبة الفينيقيين في التوسع خارج مجالهم من أجل خدمة بلدهم اقتصاديا، ونلاحظ مبدأ التضامن العائلي بين أفراد أسرة الملك الفينيقي "أجينور"، وأيضا مساهمة أبنائه في تعمير مدن وإنشاء أخرى، إضافة إلى نشر الحروف الأبجدية التي استفادت منها شعوب كثيرة ، وفي طليعتها الشعب الإغريقي..وأهم شيء نستفيده من تلميحات الأسطورتين هو سعي واضعيها على ربط أصل قارة أوربا بفينيقيا،أي ربط الغرب بالشرق ،كما سيتكرر تداوله في أصول شعوب ودول أخرى.
- الامتداد الفعلي للفينيقيين نحو ساحلي المتوسط والأطلسي
ظهر الكيان الفينيقي بداخل المدن التي شكلت كيانات مستقلة بلغ عددها ما يفوق 21 دولة – مدينة ، أهمها بالنسبة لنا مدينتان هما: جبيل وصوركما سبق ذكره .لقد لعبت المدينتان إلى جانب المدن الفينيقية الأخرى أدوارا هامة سياسية واجتماعية واقتصادية عبر تاريخ فينيقيا ، بل أتيحت لصور ، وخاصة بعد توقف هجمات "شعوب البحر" خلال نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد، أن تتوسع بالساحلين الشمالي والجنوبي للبحر الأبيض المتوسط و عبر جزره ،وأيضا "وراء الأعمدة" بالبحر الخارجي (الانتشار الفينيقي تعبر عنه الخريطة باللون الأحمر) .
خريطة 1: الانتشار الإغريقي والفينيقي عبر ضفاف المتوسط
كان الفينيقيون يبحرون اعتماداً على خطط مرسومة ومدروسة بدقة ، واختيار الوقت المناسب للملاحة .فلم يكونوا قراصنة كما صورتهم الأساطير الإغريقية ،قال شاهد من الإغريق وهو الجغرافي "سطرابون" مادحا : " كان الفينيقيون من نوع البشر الذين عرفوا الكثير في مجال علم الفلك والحساب ، ودشنوا بداية فن المعاملات الحسابية والملاحة الليلية " .
كانت أقدم طرقهم الملاحية تصل بيبلوس/ " جبيل " بسائر الموانئ المصرية ، بالإضافة إلى طرق رئيسية أخرى تنطلق من مدينتي صيدا وصور، وتتجه بدورها نحو مصر،ومنها نحو البحر المتوسط عبر خطين : خطً شمالي يسير بمحاذاة الشواطئ الجنوبية لصقلية وسردينيا وجزر البليار، وخط جنوبي يمر بمحاذاة ساحل شمال أفريقيا ، وتعود السفن أدراجها مستفيدة من الرياح ،لتصل إلى شمال مصر ثم تسير في اتجاه الساحل الفينيقي . أورد "بلين الشيخ" ما مفاده : " أن الفينيقيين وصلوا إلى مالطا حين وسعوا نشاطهم التجاري نحو الغرب باعتبارها ملجأ جيدا وسط البحر تتوفر فيه موانئ جيدة".
أدى العامل الاستراتيجي لبعض المواقع المتوسطية لتمركز الفينيقيين بها لاحقا مقارنة مع أخرى .لقد وصلوا إلى الحوض الغربي للبحر المتوسط في وقت مبكر من الزمن،إذ يرجح الكتاب الإغريق والرومان رحلاتهم البحرية بهذا الحوض إلى مطلع القرن الثاني عشر ق.م ، حيث اكتشف خلالها الفينيقيون مضيق أعمدة هرقل ( جبل طارق حاليا) وأسسوا " قادس " (Gades) سنة ألف ومائة وعشرة ق.م (1110 ق.م ) ، وربما في نفس السنة أو قبلها بقليل أسسوا ليكسوس (Lixus) ، ثم أسسوا أوتيكا بعد ذاك.وتواتر إنشاؤهم للمرافئ (انظر الخريطة الموالية) لدرجة أن الجغرافي سطرابون تحدث عن 300 مدينة فينيقية على امتداد ساحل المغرب،أي بعد مستعمرة ليكسوس.و تظل قرطاج أشهر مستعمرة فينيقية ،فهي سليلة صور،بل وريثتها الشرعية
البضاوية بلكامل، محاضرات حول تاريخ شمال إفريقيا( لفائدة طلبة الإجازة والماستر والدكتوراه ) ، منذ 1988..