أدت مجموعة من العوامل والأسباب إلى سقوط دولة المماليك . إن عصر دولة المماليك في مصر والشام لم يكن عصرا عاديا من العصور الهادئة و إنما هو عصر تجلت فيه حركة دائمة على مختلف الأصعدة حروب في الخارج ,و توسع و انتصارات ترتب عليها تحصين الشرق الأدنى الإسلامي ضد اعتداءات المغيرين و المغتصبين. وحياة داخلية حافلة بالمنجزات الإنشائية و العمرانية و الاقتصادية و الثقافية و الفنية .
وبوفاة المؤيد شيخ في عام 1421م/ 824 ه تنتهي الفترة الذهبية للعصر المملوكي لتبدأ فترة أخرى شهدت تراجعا مملوكيا بفعل حالة التطور التي كان يمر بها المجتمع المصري من ناحية و اشتداد النزاعات الداخلية في المجتمع المملوكي من ناحية, و الوثبة الأوربية نحو عصر جديد من التطور و تعاظم الدولة العثمانية من ناحية أخرى. و اخدت الدولة تاخد تنكسا متزايدا في الوقت الذي تصاعد في نمو الدولة العثمانية التي نجحت في القضاء عليها في عام 1515م/ 923 ه. لذلك سنحاول أن نسلط الضوء على الأوضاع الداخلية و الخارجية لدولة المماليك البرجية من خلال بعض السلاطين الذين تعاقبوا على الحكم نضرا لكثرة عددهم و تسارع الاحدات التي أدت إلى النهاية المحتومة من جهة أخرى.
الاشرف برسباي:
تولى منصب السلطنة بعد وفاة المؤيد شيخ مجموعة من السلاطين نذكر منهم: الاشرف برسباي ( 5841 . 825 ) ما يزيد على ستة عشر عاما امتازت بالاستقرار و قلة الاضطرابات إلا أنه رغم ما حققه من انتصارات على المستوى السياسي التي أضفت أهمية كبرى على حكمه فقد أتيح لبرسباي أن يوسع حدود الدولة ففتح جزيرة قبرص فبعد أن تم طرد الصليبيين بشكل نهائي من الشام في أواخر القرن التاسع للهجرة / الثالث عشر ميلادي ) برزت أهمية العامل البحري في شرق البحر المتوسط لأنه جعل الحروب الصليبية تتحول من معارك برية إلى معارك بحرية ذلك أن البابوية لم تجد وسيلة للانتقام من المماليك سوى بتهديدها في نشاطها التجاري فاستغلت موقع جزيرة قبرص في قطع الطريق على السفن التجارية الايطالية التي رفض أصحابها الإذعان لتعاليم البابوية و استمروا يواصلون نشاطهم التجاري مع المماليك هذا إلى أن ملك قبرص قام سنة1365م / 767 بحملة صليبية على الإسكندرية دمر فيها المدينة و هكذا تحولت الحروب الصليبية في القرنين الثامن و التاسع للهجرة / الرابع عشر و الخامس عشر ميلادي إلى حروب بحرية خاصة بعد أن دخلت رودس في حلبة هذه الحروب و بدأب الفرسان الاستبارية برودس على تهديد دولة المماليك وتجارتها في البحر.
و هنا قام الاشرف برسباي بإرسال ثلاث حملات سنة (1424-1425-1426م [827-829 - 828 ه ) لغزو قبرص و نجح فعلا في إخضاع الجزيرة في الحملة الأخيرة و تم اسر ملكها جانوس كما هاجم رودس و نشط التجارة .
إلا أنه لا يمكننا أن نتخذ حالة الهدوء و الاستقرار الذين سادا عهده بأنهما دليل على سعادة الناس فقد قاسوا من سوء الأوضاع الاقتصادية و سياسة السلطان الاحتكارية.
فعلى المستوى الاقتصادي أثقل كاهل الناس بالضرائب و الاحتكارات وعانوا من بذخ السلطان و ازدیاد جشع المماليك. أما على المستوى الاجتماعي فقد عرف المجتمع المصري آنذاك انتشار مرض الطاعون و المجاعة و الجراد.
أدت هذه الأوضاع المتردية إلى الإساءة لحكم السلطان لذلك حاول هذا الأخير من اجل التكفير عن خطاياه بالتضييق على اليهود و النصارى خاصة بعد أن أحس بدنو أجله اثر إصابته بأحد الأمراض.
في هذه الأثناء قام بتنصيب ابنه يوسف خلفا له و عين الأمير جقمق وصيا عليه و أمر المماليك أن يخلصوا له و توفي يوم السبت في الثالث عشر من شهر ذي الحجة عام 841..
بيد أن ابنه العزيز يوسف لم يتمكن من أن يحمي نفسه وعرشه من أطماع الوصي عليه الأمير جقمق نضرا لصغر سنه إذ كان يبلغ من العمر 14 سنة فقط الشيء الذي سهل الأمر على جقمق و خلع يوسف من السلطة بعد أن أمضى أربعة أشهر على العرش بمساعدة من المماليك الاشرفية المخلصين لبيت برسباي.
الظاهر جقمق:
كان السلطان جقمق 5842- 1483 / 5857 م-1435م الذي لقب بالملك الظاهر معتدلا في حكمه بالمقارنة مع حكم برسباي كما عرف بتدينه و ورعه. افتتح عهده بتوزيع المناصب الإدارية و العسكرية على أعوانه و أرضى المماليك الطامحين فمنحهم الهبات الكثيرة لكنه عرف عدة انتفاضات ضد حكمه أهمها انتفاضة الأمير قرقماس الذي لم يكن مقتنعا بما حدث من انقلاب على الحكم العزيز يوسف لذلك استغل الخلافات الداخلية بين المماليك ليقود انتفاضة ضد النظام مدفوعا باتجاه المماليك الاشرفية الذين التفوا حوله إلا نه لم ينجح نتيجة وقوع خلافات بين أتباعه و انتهي به المطاف مقتولا بعد أن تم اعتقاله وقام السلطان جقمق بمطاردة معظم المماليك الاشرفية الدين ساندوه في حركته كما واجه سلطاننا هذا انتفاضة في بلاد الشام غير انه تمكن من التصدي بجرأة للخارجين على حكمه و نجح في إخضاعهم و قتل زعمائهم فهدأت الأوضاع في بلاد الشام كما هدأت في الديار المصرية من قبل.
كما اشتهر عهده بغزوه لجزيرة رودس إذ قام بإرسال ثلاث حملات بحرية ضد رودس ( 848- 347 - 844 / 1440- 1443 - 1440 م ) ونجح في تأديبها و إن لم يستطع إخضاعها لسلطة المماليك كما حدث في حالة قبرص في عهد الاشرف برسباي وذلك راجع للأخبار التي وصلت إلى أصحاب الجزيرة الاسبارتية فاخذوا يستعدون و أرسلوا إلى القوى المسيحية يستنجدون بها الشيء الذي جعل رودس أن لا تكون تابعة لسلطة المماليك تبعية كاملة.
لذلك تعتبر فترة حكمه من أهم الفترات في العهد المملوكي نتيجة ما ساده من سلم في الداخل و هو السلم الذي افتقرت إليه البلاد منذ سنتين وقد تراجعت في عهده أحداث القتل و التعذيب .
و عندما شعر بدنو أجله تنازل عن العرش بعد حکم دام حوالي خمسة عشر عاما وطلب من الخليفة و القضاة و كبار الأمراء تعيين ابنه عثمان سلطانا و توفي و هو في الثمانين من عمره.
لكن فترة حكم ابنه لم تدم طويلا حيت حكم ستة أسابيع تقريبا و ذلك راجع لما قام به من تعسفات تجاه المؤيدية المعارضين لحكمه فاتفقوا مع الاشرفية الذين كانوا يكنون الحقد العثمان و لأبيه جقمق فتم خلعه من قبلهم وتعيين الاشرف اينال مكانه.
الاشرف اينال:
اعتلى العرش الاشرف اینال ( سنة857-865ه ) بعد تردد وضغط كبير من جماعة | المنتفضين تميز عهده بكثرة تمرد المماليك و اعتدائهم على الناس ونهبهم الأسواق ولم تنج مخازن الأمراء من تعدياتهم ولا أدل على ما أصاب البلاد من اضطراب أن المماليك تمردوا سبع مرات في عهده البالغ ثماني سنوات و نتيجة لجهل السلطان و عجزه عن ردع أمرائه سارت دولته في طريق التدهور و يمكن رصد الأحداث السياسية التالية كدليل على ذلك:
- ولى السلطان عند اعتلاءه العرش ابنه في منصب اتابك العساكر بدلا منه مخالفا بذلك القواعد المتعارف عليها بين المماليك .
- منح السلطان مماليكه حقا على الخزانة حتى يرضيهم و يشبع نهمهم فأفرغها من المال.
- اسند الاشرف اينال الوظائف الكبرى في الدولة إلى المماليك الذين لم يتدرجوا في المناصب و افتقروا إلى الخبرة.
- تمرد المماليك الذي يكاد لا ينقطع بهدف الحصول على مزيد من الإنعامات وعجز السلطان على مواجهتهم فكان يرضخ لهم و ينفد طالباتهم.
- عجز السلطان عن وضع حد لهذه الفتن التي انتشرت في البلاد.
نتيجة لضعف السلطان الحاكم غدا المماليك قوة لا يستهان بها فاعتدوا بأنفسهم و اخذوا يتدخلون في عزل و تولية الموظفين وراح الناس يتهافتون عليهم لإنصافهم و أضحى من له حق أو شبه حق لا يشتكي غريمه إلا عندهم.
و مما زاد الحالة الداخلية خطورة تفشي مرض الطاعون في عام 1460/ 864 بالإضافة إلى ظاهرة الغلاء مما ضايق الناس فعلا و تمنوا الخلاص.
و مهما يكن فان عهد الاشرف اینال يعتبر فشلا دريعا لجهوده التي بدلها من اجل النهوض بالبلاد و محزنا نضرا لما ساده من فتن و اضطرابات و غلاء. و الملاحظ أن الظلم و التعذيب و القتل قد قل على يد السلطان و عماله عما كان عليه من قبل و لكن لم يكن احد يؤمن على نفسه من المماليك و اللصوص و السارقين الذين تزيوا بزيهم كي يتمكنوا من السرقة وهم أمنون .
وبعد أن وافته المنية استخلفه ابنه المؤيد احمد ابن الأشرف اينال إلا أنه لم يحكم مدة طويلة اثر خلعه من طرف المماليك المتزايدة بعد رفضه لمتطلباتهم و عين مكانه الظاهر خشقدم من طرف المماليك الظاهرية.
الظاهر خشقدم
و يعتبر عهد هذا الأخير من العهود الهادئة نسبيا رغم الانتفاضات التي قامت بها الاشرفية فقد تمكن الظاهر خشقدم من قمع هذه الفتن و أضحى موقفه قويا و مع ذلك فقد ضل سلطاننا ألعوبة بأيدي المماليك على مختلف انتماءاتهم. ومن جهة أخرى أراد السلطان أن يقوم سلوكه و يجعل نفسه محبوبا لدى القضاة و الطبقات ذات النفود ليستعين بهم على تهدات ثائرة الناس فتصرف على محورين داخلي وخارجي.
أما المحور الداخلي فقد أصدر عدة قوانین ضد أهل الذمة راح يطبقها بصرامة أما فيما يتعلق بالجانب الخارجي فقد قام بإرسال عدة حملات عسكرية إلى قبرص ليمتص النقمة الداخلية لكن الحقيقة فانه كان يهدف إلى مساعدة الملك جيمس و التخلص من المماليك الذي كان يخشاهم من جهة أخرى.
لقد شهد عهده فترة سلم لكونه حافظ على سيادته مند بداية حكمه حتى نهايته بفعل مهارته في لعبة تكافؤ القوي. أما العدل فكان منتهكا حيث المتهمون كثيرا ما يباعون و يسلمون إلى المدعين أما الإدارة فقد أصابها الفساد و تفشت عادة بيع المناصب مما أحدث تدمرا عاما عبرت عنه العامة من خلال الانتفاضات التي كانوا يقومون بها و نتیجه لذلك لم يتمكن من کسب رضي المجتمع المصري.
بعد وفاة الظاهر خشقدم تربع على عرش السلطة ثلاثة سلاطين هم الظاهر بلباي و الظاهر تمريغا و خير بك لكنهم لم يحكموا فترت طويلة لكونهم لم يكونوا أهلا للسلطة في نظر المماليك خاصة خير بك الذي حكم ليلة واحدة وتم خلعه ليعين مكانه الاشرف قايتباي.
الأشرف قايتباي:
و هو احد ابرز سلاطين دولة المماليك البرجية لسببين الأول لكونه حكم مدة طويلة بلغة تسعة و عشرين عاما (872-901ه) و هي مدة لم يحكمها احد من سلاطين المماليك عامة باستثناء السلطان الناصر محمد. و الثاني انه اثبت خلال هذه المدة أنه من أكفا السلاطين البرجية في الميدان العسكري إذا انتصر على التركمان و العثمانيين, و من أوسعهم خبرة في الشؤون السياسية و من اکثرهم مقدرة و شجاعة وحكمة و حسن التدبير عرف عهده بكثرة الضرائب فجمع الأموال لإنفاقها في الحروب و إقامة المنشات و شهد انتشارا كبيرا للوباء مما ترتب عليه اشتداد القحط و انتشار طاعون المواشي و ندرة الأقوات و غلاء الأسعار.
كما امتاز بكثرة انتفاضات المماليك التي عانى منها اذ اثبت هؤلاء أكثر من مرة أنهم لا يقدرون خطورة الوضع السياسي التي كانت تتعرض له الدولة بين الحين و الأخر خاصة من طرف الدول التركمانية التي هددت الاطراف الشمالية لدولة المماليك في شمال الشام و العراق و شرق اسيا الصغرى و اهم هذه الدول دولة دلغادر و دولة قرمان ثم دولتي الشاه البيضاء و الشاه السوداء. ولا الضائقات الاقتصادية التي كانت تمر بها ولم يكن لهم من هدف سوى الحصول على النفقات دون النظر إلى حالة الدولة المالية أو التزاماتها الحيوية.
و بعد أن انتقل إلى دار البقاء اعتلى عرش السلطة مجموعة من السلاطين لكن السلطان الذي حكم أطول فترة من بعده هو الأشرف قانصوه الغوري.
الأشرف قانصوه الغوري:
حكم سلطاننا هذا من 906ه-922ه لمدة سبعة عشر سنة اثبت خلالها انه رجل قوي و صلب على غير ما كان يتوقع الأمراء رغم انه تجاوز الستين من عمره عندما ولي المنصب. فعمل على إعادة الأمن و الاستقرار إلى العاصمة ثم ملا مناصب الدولة بمن يثق بهم من الأمراء ثم اتجه إلى علاج الأزمة المالية المستحكمة التي كانت تعاني منها الدولة و ذلك بوضعه لسياسة مالية لم يسبقه إليها احد السلاطين من قبل جاءت تعسفية إذ فرض ضرائب إجبارية على كل أنواع الممتلكات على الأراضي و الحوانيت و العقارات... كما ضاعف الرسوم الجمركية و تلاعب في وزن العملة لتستفيد الخزانة من الفارق و فرض رسوما على الموتى و أشار عليه احد مستشاريه بفرض ضريبة على المماليك وكاد يفعل لولا انه واجه معارضة شديدة من جانبهم.
خلفت هذه الضرائب عدة نتائج نذكر منها:
- حقق السلطان هدفه وحصل على ما كان يرغب فيه من أموال و لكن على حساب الشعب الذي ازدادت حالته سوءا فاخد يئن من قسوة الضرائب الباهظة.
- ولدت هذه السياسة المالية الثورات في القاهرة
- أرهقت هده السياسة التجار كما تدنت قيمة العملة.
أما الأموال التي جمعت من الناس على هذا الأسلوب المتقدم فكان معظمها يسرف بسخاء في وجوه غیر منتجة على:
- المماليك الذين ساهموا في جمعها.
- شراء عدد كبير من المماليك ليكون السلطان منهم فرقة عسكرية خاصة به.
- الإصلاحات العامة كتشييد المساجد و المدارس و تامين الاستراحات و حفر الآبار على طريق الحج...
لكن كل هذه النفقات التي ذكرت لم تكن شيئا مذكورا بالمقارنة مع النفقات التي خصصت و أنفقت على البلاط أما فيما يخص الانتفاضات فلم تكن كثيرة في السنوات الأولى من حكمه إذا استثنينا بعض الانتفاضات من جانب المماليك.
أما على الصعيد الخارجي فقد واجه السلطان الأشرف قانصوه الغوري خطرين كبيرين اترا بشكل مباشر على تطور أوضاع الدولة وهما الخطر العثماني و اکتشاف راس الرجاء الصالح من طرف البرتغاليين الذي أدى إلى انقلاب في طرق التجارة العالمية. إذ بدا الإعراض عن شراء التوابل من السوق المصرية مما حرم المماليك من المورد الأول الذي استمدوا منه أسباب قوتهم و عظمتهم. و الواقع أن هذين الخطرين كانا من بين الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة المماليك في حين كانت الحرب مع العثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول سببا في وفاة السلطان الغوري بعد خسارته معركة مرج دابق عام 922.
ومن خلال هؤلاء السلاطين الذين أسلفنا في ذكرهم يخلص بنا القول أن دولة المماليك البرجية عرفت تدهورا على مختلف الأصعدة التي لعبة دورا في انهيارها فعلى المستوى الاقتصادي أتقل السلاطين كاهل الناس بالضرائب وعلى المستوى الاجتماعي عرفت الدولة كثرة المجاعات و الأوبئة ومن الناحية.
السياسية شهدت الدولة مجموعة من الفتن و الاضطرابات من قبل المماليك كيف ماكانت انتمائاتهم و صراعات حول الحكم أما فيما يخص الجانب الإداري فقد عرفت الدولة تفشي الفساد و بيع المناصب هذا فيما يتعلق بالأوضاع الداخلية أما بالنسبة للأوضاع الخارجية فقد عانت من تصاعد نمو الدولة العثمانية.
محمد سهيل طقوش. تاريخ المماليك في مصر و بلاد الشام.دار النفائس بيروته 1998.
مصر و الشام في عصر الأيوبيين و المماليك. دكتور سعيد عبد الفتاح عاشور. دار النهضة العربية بيروت - لبنان.
تاريخ المماليك جامعة دمشق 1992