الحماية القنصلية:الجذور والتبعات
تعود الجذور الأولى للحماية القنصلية إلى عهد المولى سيدي محمد بن عبد الله.إذ في عهده تم توقيع مجموعة من المعاهدات، واتفاقيات صداقة مع دول أوروبية تسمح لهم من خلالها الحق لرعاياها بالمتاجرة والتنقل داخل التراب المغربي دون تأشيرة أو رخصة...ومن فصولها أيضا اختيار سماسرة لهم لترويج تجارتهم قدر ما يشاؤون.ويضمن لهؤلاء السماسرة،وكل من يخدم القناصل والتجار ويمشي في أغراضهم ويسعى في حاجاتهم،التوقير والاحترام اي الحماية. ويعفيهم من كل المغارم وجميع التكاليف التي يفرضها المخزن على من عاداهم من المغاربة.ومنها فصول تعترف بقضاء قنصلي يفصل فيما ينشأ بين الأجانب وحدهم من خصام حسب شرائع بلدانهم،وقضاء مشترك يحكم فيه القناصل إلى جانب الولاة المغاربة فيما إذا كان الخصام بين مغاربة وأجانب.
لم يكن لهذه الفصول أنذاك خطر يذكر إذ كانت المبادلات التجارية بين المغرب و اوروبا ضعيفة جدا،كما أن عدد الأجانب قليل وبالتالي حتى من كان في خدمتهم قليل هو الإخر.حتى أنه لم تكن انذاك الجدية في اضعاف المغرب واحتلاله كما سيحدث طيلة القرن 19م.
الاتفاقيات التالية التي أبرمت في القرن 18م:
- المعاهدة المغربية السويدية 1763م
- المعاهدة المغربية الفرنسية 1767م
- المعاهدة المغربية الدنماركية 1767م
- المعاهدة المغربية البرتغالية 1773م
معاهدات القرن 19م:
المعاهدة المغربية البريطانية 1856م وتعتبر السبب الرئيسي والمباشر لمعضلة الحماية القنصلية والتي سرعان ما تحولت إلى سرطان شل الجهاز المخزني وفتت بنياته الإقتصادية والإجتماعية العتيقة ليجعل الأطماع والضغوطات تتزايد على المغرب من قبل الدول الأوروبية.
البند الثالث من اتفاقية 1856م
”(...)والنائب المذكور يختار من يترجم عنه ويخدمه من المسلمين او غيرهم(...).وإذا جعل النائب المذكور خليفة في خدمة القنصوات بمراسي سلطان مراكش من رعية السلطان،يكون هو وعياله الساكنين بداره موقرين محترمين،ولا يلزمهم جزية ولا غرامة ولا ما يشبه ذلك.ولا يكون له أحد تحت حمايته من رعية هذه الإيالة إلا عياله فقط (...).“
بموجب هذا البند، إعترف المغرب بحق بريطانيا وبقية الدول الأجنبية،في منح حق الحماية لرعاياه،بالرغم مما في ذلك من تفريط في السيادة المغربية،ومن تنازل عن جزء من اختصاصاته.
والغريب في الأمر أنه لم يتم مناقشة هذا القانون من حيث المبدأ،بل حاولت بريطانيا أن تظهر أنها صاحبة نوايا حسنة وبالتالي وضعت تعريفين للحماية هما:الحماية القانونية والحماية الغير قانونية.رغبة منها في التفريق بين الحماية التي جاءت في المعاهدة،وبين الحماية التي يمنحها أو يبيعها بعض ممثلي الدول الأجنبية لبعض المغاربة دون سند قانوني ورد في إحدى الاتفاقيات.
المعاهدة المغربية الاسبانية 1860 و1861
جاءت هذه المعاهدة عقب حرب تطوان وانهزام المغرب فيها وبالتالي أملت اسبانيا شروطها للانسحاب من تطوان وقد كانت شروط هذه العاهدة قاسية جدا ومن بينها:
- التنازل عن بعض اجزاء من الأراضي المغربية
- انشاء كنيسة بفاس واخرى بتطوان
- إعفاء النصارى من الضريبة
الغرامة الحربية والتي بموجبها رهن المخزن مراسيه،فصار الموظفون الإسبان يجلسون إلى جانب أمناء المراسي لاستخلاص الغرامة وذلك عبر أخذ نصف الرسوم الجمركية.
جاء على لسان الناصري في الاستقصا بخصوص هذا الموضوع:
“ووقعت تطاوين هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب،واستطال النصارى بها وانكسر المسلمون انكسارا لم يعهد له مثله،وكثرت الحمايات ونشأ عن ذلك ضرر كبير.
المعاهدة المغربية الفرنسية 1863أو ”اتفاق السماسرة“
اعتبرت فرنسا أن اتفاقياتها السابقة مع المغرب غير كافية وأن جارتيها الإسبانية والإنجليزية استفادتا أكثر وبالتالي ضغطت فرنسا على المخزن لإجراء اتفاقية ”وفق بيكلار“
استطاعت من خلالها فرنسا والدول الأجنبية المتعاقدة مع المغرب ببسط الحماية القنصلية على مزيد من الرعايا المغاربة،حتى يصبحوا في خدمة الدور التجارية الأجنبية بصفتهم أعوان أو سماسرة أو شركاء مع التجار المقيمين في المغرب،وبالتالي إعفاؤهم من جميع أنواع الضرائب والكلف المخزنية.
الحماية القنصلية اليهودية
حظي اليهود المغاربة باهتمام مبالغ فيه من قبل بريطانيا ونصبت نفسها حامية لهم ومدافعة عن حقوقهم بعد معاهدة 1856 نظرا لحجم المبادلات التجارية بين المغرب وانجلترا والتي لعب فيها اليهود دورا مهما إذ كانت الفئة الاكثر نشاط وحيوية.وخصوصا بعدما اصطبغ العديد منهم بطابع الحماية القنصلية،وبالتالي ستكون هذه النقطة أيضا من النقاط التي ستسعى بريطانيا لجعلها ذريعة للتدخل في الشؤون المخزنية.
كان أول تدخل بريطاني في شؤون الرعايا المغاربة اليهود في سنة 1848م حيث ألح دراموند هاي على المخزن بإقالة عامل الدار البيضاء،بعد شكايات رفعها ضده المحمي البريطاني اليهودي حاييم المالح. ومطالبته بتقديم تعويضات لحاييم وتوجيه أوامر مخزنية الى الولاة لمساعدة المالح في تحصيل ديونه في أجل لا يتجاوز 30 يوما.
(...)أننا رفعنا هذا الأمر لدولتنا،وأخبرتهم بأننا نركب بعيالنا ونقطع المعاملة إذا لم يكن فصال بعد مضي ثلاثين يوما(...).رسالة هاي للخطيب.
لم تكن رغبه درايموند هاي هنا الدفاع عن اليهودي حاييم المالح بقدر ما كان يسعى للضغط على المخزن لتوقيع المعاهدات التجارية.
بعدما أخذ يهود تطوان بيد الإسبان أيام احتلالهم للمدينة،ونظرا للاهتمام الذي خص به يهود أوروبا إخوانهم في تطوان،أظهر دراموند هاي حرصه الشديد على أمنهم وسلامتهم.
بعد الاتفاق المغربي الإسباني وتسليم مدينة تطوان،سارع دراموند هاي بإيعاز من الجمعيات اليهودية في أوروبا وباسم الحكومة البريطانية الى توجيه رساله الى محمد الخطيب،يحث فيها على ضرورة اعطاء السلطان أوامره الى
” (...) الولاة ليكونوا على بال،لكي لا يقع لليهود معاقبة أو مضرة من جهة رعية المسلمين أو الانتقام لأجل ما سلف..(...)“
زيارة مونتفيوري للمغرب
يعتبر مونتفيوري كبير أثرياء يهود بريطانيا وجاء خصيصا للمغرب من أجل تدارس مشكل اليهود المغاربة،إثر حادثة مقتل الإسباني (مانطيا) على يد أربعة يهود،اتخذ المخزن معهم الإجراءات المعمول بها انذاك قانونيا.غير أن الأمور سيتغير مجراها بعد تدخل الدبلوماسيين الأجانب وتداول شائعات حول الوضع القانوني الذي تم فيه اعدام أحد المتهمين،مما سيجعل المغرب تحت أنظار المجتمع الدولي،وبالتالي سيكون مضطرا الى الرضوخ مرة اخرى تحت الضغوط الأجنبية لتأخذ القضية مجرى آخر ويتم إطلاق سراح باقي المتورطين.
عقد مونتفيوري اجتماعين مع السلطان محمد بن عبد الرحمان ووزرائه،استطاع الحصول منه على ظهير نص على:“(...) التسوية بينهم (اليهود)وبين غيرهم في الأحكام“ أي أصبح اليهود تحت حماية السلطان الخاصة ولهم نفس حقوق المسلمين المغاربة.
غير أن البعض من المسلمين أو اليهود المغاربة قد أساؤوا فهم مضمون الظهير وتسببوا أحيانا في حدوث توترات قوية لكنها غالبا ما كانت تنتهي بتدخل الدوائر العليا.
هذا الوضع أدى إلى التفرقة بين اليهود المغاربة منذ ذلك التاريخ إلى مجموعتين:
مجموعة إختارت الحفاظ على خصوصياتها التقليدية والإبقاء على ولائها المطلق للسلطان،بما في ذلك قبول الشروط المفروضة عليهم كأهل ذمة.
ومجموعة اختارت أن تتخلص من وضعية أهل الذمة والإرتماء في أحضان الحماية القنصلية بل وحتى أخذ جنسيات أخرى.وهي ماستزيد من متاعب المخزن وتساعد على التغلغل الأجنبي أكثر فأكثر.....
أصبح جمهور من المغاربة خارجا عن سلطة قانون دولته الام رغم استمرارية استقراره ببلاده،ومحافظته على جنسيته ،يدين بالولاء والتبعية للأجنبي الذي جعل منه معولا لهد اركان سيادة وطنه ،وقيدا لشل{يد الدولة المغربية تشريعيا و قضائيا في مباشرة سيادتها والقيام باي اصلاح في النواحي السياسية و القانونية والاقتصادية و الاجتماعية}.
اصبح المغرب مهددا بالفوضى وعدم الاستقرار بسبب تعاظم عدد المحميين ،واستشراء تعسفاتهم اتجاه المخزن و اخوانهم المغاربة من غير المحميين،مما ادى الى تعطيل الاحكام ،وتهديد الامن وافلاس بيت المال،وبدلك صارت الحماية {تشكل من الداخل على الدولة خطرا يسهل على المتربصين بها دوائر السوء، ما يبيتون لها من مكايد وينصبون للاقاع بها من فخاخ}.
فبواسطة الحماية القنصلية صار بعض الاجانب يسيطرون على الكثير من ثروات البادية ومن ذلك تجار فرنسيين أصبحوا يملكون داخل قبيلة واحدة .هي قبيلة اولاد احريز ستة عشر الف من رؤوس الماشية معظمها من الاغنام.
اوجدت الحماية القنصلية بالمغرب برجوازية من نوع خاص يمثلها التجار والسماسرة وقد انحاز هؤلاء للأجانب واحتموا بهم بقصد التخلص من فروض المخزن و مغارمه ،حتى يزيدوا ثراء و نفوذا.
اصبح سلاطين المغرب و مفكروه ينفرون من كل اصلاح يقترحه الاوربي او يرغب في تنفيذه وتحقيقه.
ادت الحماية الى توسيع وتعزيز التغلغل الاقتصادي الاستعماري.
شكلت مسألة التجاسر على الولاة والأمناء والمحتسبين والقضاة، ورفض المثول أمامهم والامتثال لأوامرهم، إحدى أهم القضايا التي أرقت المخزن من تصرفات اليهود المحميين، وزاد الأمر استفحالا بتصرفات استفزازية مثل رفض خلع النعال بجوار “الأماكن المعظمة”، ووصل التحدي حد القتل والرغبة في الإفلات من العقاب.
شكل انتشار الحمايات وما تلاه من تدخل فاحش في شؤون البلاد الداخلية، وتضخيم لأدنى حدث وانتزاع التعويضات المالية الباهضة من المخزن أحد العوامل الأساسية التي أدت إلى اختلال التوازن داخل المجتمع المغربي واضمحلال الهياكل المخزنية وتعدد الاضطرابات واستحالة كل عمل للنهوض.
محاولة إصلاح نظام الحماية
لقد حاول السلطان المولى الحسن جاهدا منذ توليته حل مشكل الحماية القنصلية، وظل يرفض المفاوضة حول أية قضية ما لا تحد فوضى حماية الأشخاص باعتبارها أصل كل المشاكل التي كانت تثار بين المغرب والقوى الأجنبية، ففي ماي 1876 بعث سفارة برئاسة الحاج محمد الزيدي إلى بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا لجلب اهتمام الحكومات الأوربية إلى أضرار ومخاطر الحماية القنصلية ولم يحصل السفير المغربي على أي التزام محدد.
لقد دامت المحاولات الرامية لوضع حد للحماية قرابة خمس سنوات ابتدأت بطنجة (1877 – 1880) وانتهت بمدريد.
ففي 10 مارس 1877 قدم نائب السلطان محمد بركاش مذكرة إلى النواب الأوربيين في طنجة تعرض مآخذ المخزن على الحماية القنصلية، وتنص على الإصلاحات الواجب إدخالها، كما تطالب بعقد مؤتمر تدرس فيه مشكلة الحماية التي تسبب مضرة خطيرة للسيادة الترابية وللموارد المالية وللإدارة والقضاء في بلاد السلطان.
وفي سنة 1879 اجتمع النواب الأجانب مرة أخرى في طنجة للنظر في وضع نظام خاص لحماية الأجانب وطالت المفاوضات دون نتيجة.
وقد بدأت المفاوضات بطنجة في 9 يوليوز واستمرت إلى 10 غشت 1877، وإذا كان الممثلون الأجانب قد وافقوا على الحد من بعض تجاوزات المحميين وعلى بعض ما جاء في مذكرة بركاش (موافاة المخزن بلائحة المحميين كل سنة ) فإنهم لم يتوصلوا إلى اتفاق بشأن وضع حدود دقيقة لحق منح الحماية.
وفي فبراير من نفس السنة طلب بركاش من الممثلين الأوربين نتائج مفاوضاتهم لكنه لم يتوصل بجواب واضح في الموضوع فطالب بعقد اجتماعات أخرى للتوصل إلى اتفاق نهائي حول حماية الرعايا المغاربة وحول الضرائب التي يجب على المحميين دفعها والجوازات التي تمنح للمغاربة الذين يهاجرون إلى دول أخرى فيغيرون جنسيتهم ولا يعترفون بسلطة القانون المغربي بعد رجوعهم المغرب، ودامت هذه المحادثات ثلاثة أشهر انتهت إلى موافقة الهيأة القنصلية على بعض المطالب المغربية دون أن تعرف حيز التطبيق، وهكذا انتهت سنتان من الاجتماعات بالرفض الشامل تقريبا للمقترحات المغربية، وأخيرا اقترح دريموند هاي عقد مؤتمر دولي لتسوبه المشكل وللبث في بعض النقط المالية التي أثارها المغرب.
نموذج لبعض الشخصيات المحمية المغربية
حماية بريطانيا لمسعود التلاوي
كان مسعود التولاي أخا للقايد عبد القادر التولاوي بشياظمة.،و بعد وفاة هذا الأخير أخذ مسعود كل ماتركه القائد من أموال كان قد قام بابتزازها من أبناء قبيلته لتحصيلها،حاول السلطان أكثر من مرة التضييق عليه لاسترجاع الأموال، لكنه دائما ماكان يجد فرصة للهروب،حتى تمكن في أخر المطاف من الحصول على حماية بريطانية،تمكن خلالها التولاي من التطاول على الأملاك المخزنية وتحريض قبائل الشياظمة على التمرد ضد عاملهم وعلى المخزن،ووصلت به الجرأة أن قام بتزويدهم بالبارود والسلاح ،لكن وضعه كمحمي بريطاني جعله لا يتعرض للمحاكمة حتى بثبوت الجرم في حقه.
الحماية البريطانية لبوبكر الغنجاوي
وصفه الانجليزي كونينكهام كراهام انه كان
”(...) معروفا من الأطلس الى الريف ومن الصحراء الى الصويرة،مبغوضا ومهاب الجانب لكنه كان يحظى بالاحترام (...)“
انتقل بوبكر الغنجاوي من سائق للجمال إلى سمسار في خدمة الانجليزي (يوناط) الذي كان أخا للقنصل الانجليزي في أسفي،ثم تحت الحماية المباشرة لابن الخليفة سيدي حسن في مراكش بأمر من دراموند هاي.ليتم تعيينه في الأخير نائبا سريا عن دراموند هاي لنقل المراسلات بينه وبين السلطان وبالتالي أصبح الغنجاوي من منبوذ من المخزن إلى دولاب من دواليبه لمدة ثلاثين سنة.
مؤتمر مدريد 1880م
حاول فيه الحسن الأول إقناع الدول الأوربية للحد من الحماية القنصلية،غير أن هذه الدول تمسكت بالامتيازات الممنوحة لها،وسيتم وعقد مؤتمر مدريد في يوليو 1880 وشاركت فيه فرنسا وألمانيا والنمسا-المجر وبلجيكا و الدانمارك وإسبانيا وإنجلترا وإيطاليا وهولندا والبرتغال والسويد والولايات المتحدة الأمريكية والمغرب، وأقر الامتيازات السابقة وتم التنصيص على:حق الأجانب في اقتناء ممتلكات عقارية بترخيص من المخزن (البند 11).
- أداء حقوق الأبواب وضريبة الترتيب التي يكون طبيعة ونمط وتاريخ ونسبتها موضوع تنظيم خاص بين ممثلي الدول والمخزن المغربي (البند 12).
- تسليم بطاقات الحماية باعتدال، التي ساهمت في تزايد عدد المحميين بعد المؤتمر.
وقد انتهى هذا المؤتمر الذي انعقد بمدريد من 19 مايو 3 يوليوز 1880 وبمشاركة كل القوى التي تتوفر على ممثل لها في المغرب إلى نتائج مخالفة لما كان يتوقعه المخزن، إذ لم يزد أن جعل مشكل الحماية قانونا دوليا أصبح المغرب ملتزما به أمام الدول الأوربية، فبتوسيع المؤتمر مجال امتياز الحماية ليشمل مجموع القوى الأوربية قد عمل على ترسيخها عوض التخفيف من حدتها، وزيادة على هذا اعترف المؤتمر للأجانب يحق اقتناء ممتلكات عقارية بترخيص من المخزن. وقد شكل حق الامتلاك هذا باعتبار الحصانة التي تتمتع بها كل الأنشطة الأوربية بالمغرب تنازلا حقيقيا عن السيادة الترابية، وبمعالجة المؤتمر لقضايا غير الحماية الشخصية كالملكية، والضرائب، وحرية العقيدة قد وسع مجال تدخل القوى الأوربية بالمغرب مما يشكل سابقة خطيرة.وفعلا لم يعد المخزن حرا في تصرفاته ولا يمكنه إحداث أي تغيير بالبلاد دون موافقة القوى الأوربية. لقد سجل مؤتمر مدريد عمليا نهاية استقلال المغرب.
مواقف العلماء
لقد كان من الطبيعي بالنظر لمكانة العلماء كأوصياء على مصالح الأمة وبحكم المسؤولية المنوطة بهم أن يحددوا مواقفهم حيال ظاهرة الحماية الشخصية، ويبرزوا عواقبها بالنسبة لمستقبل البلاد والعقيدة الإسلامية، ولقد ضمنت طائفة من العلماء مواقفها في عدة كتابات جاءت على شكل فتاوى وخطب ورسائل اختلفت آراء الدارسين في تقييمها بين قائل أنها تعبر عن وعي دقيق بالخطر المحدق بالبلاد وتحدد المسؤوليات وتعرض الحلول البديلة للخروج من الأزمة، وبين مؤكد على خلو هذه الكتابات من النظرة الواقعية للأحداث واكتفائها بالوعظ والإرشاد، وأن فئة العلماء التي لم تكن تملك استقلالية اتجاه المخزن وكانت غير قادرة على تقديم فكر ومشروع مجتمعي في مستوى التحولات التي عرفها المغرب آنذاك، وهذه الكتابات لا تعدو كونها تمثل نصوصا فرعية انبثقت من نص أصلي هو النص الإلهي.
لقد اجمعت كل هذه الكتابات على استنكار ظاهرة الحماية الشخصية وإدانة طائفة المحميين والمتعاملين مع الأوربيين مسلمين ويهود والدعوة إلى محاربتهم ومقاطعتهم،هذا وقد تفاوتت هذه التآليف في مستوى تحاليلها للأسباب التي أدت إلى نشوء معضلة الاحتماء بالأجنبي ورصدها للأضرار المادية والمعنوية الناتجة عنها وكيفية سبل مناهضتها. وإذا أخذنا رسالة العربي المشرفي كنموذج لهذه الكتابات نجده بعدتنديده بطائفة المحميين وإبراز زيف ادعاءاتهم، يتساءل عن حكم الشرع في حق هؤلاء قائلا" فهل يكون المحتمي بالحماية على هذه الحالة مسلما عاصيا أو خرج عن دينه بالكلية وللإمام أن يحكم فيه باجتهاد..."ويكتفي المشرفي بالجواب على السؤال المطروح بتوجيه النصح إلى كل مسلم بأن واجبه هو مقاطعة هؤلاء المحميين مقاطعة نهائية لأنه يرى أنها السبيل الوحيد للحد من انتشار هذه الظاهرة مؤكدا على أن تهاون رجال السلطة في اتخاذ تدابير تأديبية ضد المحميين يشجع لا محالة رعايا آخرين على اقتفاء أثرهم. وأن الأمر سيأخذ أبعاد الكارثة لأن الشك بدأ يتسرب إلى عقول العامة حيث ينظرون إلى وضعية أصحاب الحمايات ويقارنونها بوضعيتهم فيتصورون أن دين الكفار أحسن من دينهم، لأن هذا المنكر – وهو التعلق بالعدو- من أعظم المفاسد في الدين يتعين فيها الزجر والتغليط وحيث لم يكفهم من له الكلمة من أهل الحل والعقد زادهم ذلك غلطة وفضاضة واتسع الخرق على الواقع وعظمت المصيبة وفسد اعتقاد العامة حتى ظنوا أن ذلك الدين الفاسد هو الدين الحق وأساءوا الظن بدين الإسلام والعياذ بالله.
سعت القوى الأجنبية مبكرا إلى النفاذ إلى الجسد المغربي وتفكيكه تدريجيا عبر غزو بطيء من خلال معاهدات غير متكافئة، عملت على تمطيط بنودها وتأويلها وفق ما يخدم استراتجيتها في التغلغل.
وقد استغلت الدول الأجنبية هذه المعاهدات لتضمن اختراقا تدريجيا للسيادة المغربية، وتدخلا سافرا في المنظومة التشريعية للبلاد.
أسال موضوع الحماية القنصلية مداد كثير من الدارسين مغاربة وأجانب وتنوعت نظرتهم للموضوع ومقارباتهم لأسباب وتداعيات الظاهرة بين من ربطها بوضع داخلي مأزوم قل فيه المعاش واشتد فيه ضغط الجباة وتعسف القواد، وبين من ربط لجوء المغاربة إلى الاحتماء الأجنبي بإستراتيجية الغزو الهادئ والتدريجي للأجانب للنفاذ إلى خلايا المجتمع المغربي عبر مسام دقيقة في شكل امتيازات منحت لهم بمقتضى معاهدات غير متكافئة ترسخت مع الزمن. فاختلفت الآراء بشأن هذه الظاهرة/ النازلة ليس بين الباحثين فقط بل طال الأمر كذلك مواقف العلماء بشأنها.
خالدبن الصغير،المغرب وبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر (1856_1886).منشورات كلية الاداب والعلوم الإنسانية بالرباط،سلسلة رسائل وأطروحات رقم 34
تاريخ المغرب تحيين وتركيب،إشراف محمد القبلي،منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب،الرباط 2011.
عبد الوهاب بن منصور،مشكلة الحماية القنصلية بالمغرب من نشأتها الى مؤتمر مدريد سنة 1880،المطبعة الملكية الرباط 1985.